سارتر وديبوفوار

دو بوفوار..سارتر ..الحب والحياة

سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر.. وجها لوجه

أحمد رجب

“ما أضيق عالمي الصغير، إذا ما قيس بعالم سارتر الغني”، تلك الجملة الواردة في مذكرات سيمون دو بوفوار تبين صورة سارتر لديها، لكن آخرون لم يروا الصورة كذلك، فالناقدة وكاتبة السيرة الاسترالية/ البريطانية هازل رولي تتساءل مستغربة “كيف استطاعت سيمون دو بوفوار العيش مع ذلك الشخص ذي النظارات السميكة والصوت المعدني والبذلة الزرقاء المجعدة، والمهووس بالسرطانات، في حين أنها تمتلك كل تلك الحيوية والذكاء والعذوبة؟ يا له من لغز.!”

لذا تحاول تفكيك اللغز في كتابها، الذي ترجمه محمد حنانا وصدر في 448 صفحة، عن دار المدى العراقية تحت عنوان “سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر.. وجها لوجه .. الحب والحياة”.

خصص الكتاب أول عشرين صفحة لنشر صور فوتوغرافية، تعبر عن تلك العلاقة الثنائية الفريدة في مختلف مراحلها، تركز مؤلفته على ما تسميه الإغفالات، أي ما تعمد طرفي العلاقة إغفاله في مذكراتهما وأحاديثهما المنشورة، عن الجوانب المخفية قصدا من تلك العلاقة يدور الكتاب، الذي لا تعده صاحبته كتاب سيرة بل “قصة علاقة” تقول عنها “أردت أن أصوِر هذين الشخصين عن قرب في لحظاتهما الحميمية، وسواء اعتقدنا أنها واحدة من أعظم قصص الحب في التاريخ أم لم نعتقد، فهي بالتأكيد قصة حب عظيمة. تماما كما أراد سارتر وبوفوار لحياتهما أن تكون”.

سارتر وسيمون نجحا في تحويل الحياة إلى سرد، وفقا لفكرتهما التي عبرا عنها بالقول”إن الحياة المعيشة يمكن أن تماثل الحياة المسرودة، فلا أسرار، لكون الاحتفاظ بالأسرار كان بنظرهما أثرا من آثار نفاق البرجوازية”، وكانت مهمتهما كمفكرين هي سبر أغوار ما تحت السطح للوصول إلى الحقيقة، لذا اتفقا على أن ينشرا رسائلهما المتبادلة بعد رحيلهما، فلم يتلفا تلك الرسائل. وصرح سارتر ذات مرة “لم يحدث أبدا أن تخلصت من الرسائل أو الوثائق المتعلقة بحياتي الخاصة، فأنا أميل إلى أن أكون شفافا، وأعتقد أن الشفافية يجب أن تكون بديلا للسرية”، وسيمون كانت تشاركه القناعة نفسها، لذا تحدثا كثيرا عن رغبتهما في أن يكونا أكثر انفتاحا حول نوازعهما الجنسية، لكن منعهما من ذلك خشيتهما توريط الآخرين ممن كانوا شركاء في مثل هذه العلاقات.

وتشير الكاتبة إلى أن دوبوفوار السبعينية، غير سيمون الشابة المتمردة، ففي حديث أجرته معها الناشطة النسائية أليس تشايفزر، سألتها عما إذا كانت أغفلت أسرارا لم تكتبها في مذكراتها، فأجابت “نعم، كنت أتمنى أن أكون أكثر صراحة وتوازنا في وصف ميولي الجنسية، أن أخبر النساء حول حياتي الجنسية، لكن لم أقدر أهمية هذه المسألة حينذاك”. أما عن الحياة الشخصية لسارتر، فكانت أكثر تعقيدا نظرا إلى مواقفه المتناقضة وشهوانيته التي كانت بلا حدود.

حينما نفكر في هذا الثنائي الاستثنائي فإننا نفكر في الحرية، فسارتر القائل “الإنسان محكوم بأن يكون حرا” التصقت فلسفته عن الحرية بالحياة ولم تكن أسيرة برج عاجي، وهما كمفكرين تحديا كل التقاليد الاجتماعية، أدركا أنهما يبتكران علاقتهما من خلال تعاونهما، واتخذا علنا عشاقا، وكان كل منهما صديق لعشيق الآخر، فقد اتفقا على مبدأ رئيس حكم علاقتهما وهو أن حبهما مطلق بينما حب الشخص الآخر ثانوي.

تقول هازل رولي “كان مستحيلا معرفة أي أمر أكثر إرضاء لهما، أهو رعشة التلصص عند سماع تفاصيل الحياة الجنسية لكل منهما، أم المتعة الحميمية التي يولدها سرد تلك التفاصيل”.

وفي الكتاب تتبع هازل رولي أهم النقاط في المسار المشترك لهذا الثنائي المثير للاهتمام منذ الستينيات وإلى اليوم، منذ أن اختارا لنفسيهما شعار إحدى لافتات ثورة الطلبة في باريس (1968) “فلنعش من دون وقت مستقطع”.

هكذا أقبلا على الحياة بشهية كاملة، وتحديا التقاليد الاجتماعية السائدة، وإن وصلا فيما بعد إلى فكرة مفادها أن “لا حرية بلا مسؤولية”، ربما بتأثير الحرب العالمية الثانية وآثارها. هذا ما نجده فيما كانا يكتبانه في مجلتهما “الأزمنة الحديثة” التي تركت أثرا واضحا في تطوير مسائل علم الأخلاق، بينما أسست سيمون دو بوفوار بكتابها “الجنس الثاني” النظرية النسوية الحديثة.

استغرقت سيمون دوبوفوار ثلاثة عشر عاما، لتنتهي من روايتها الأولى “أتت لتبقى” التي بذرت أول بذور أسطورة الثنائي سارتر/ سيمون، وقد صدرت في عام 1943 نفس عام صدور “الوجود والعدم” الذي تم تجاهله وجر على سارتر مشاكل لا حصر لها فقد رآه المحافظون ملحدا فاسدا، كذلك رواية “أتت لتبقى” التي وصفتها صحافة زمن الحرب بالانحلال الأخلاقي، لدرجة أن سيمون شكت للمقربين منها من أن الناس ينظرون لها بإزدراء، بينما رآها البعض عملا شجاعا يقاوم الأيديولوجيا التي تتبناها حكومة فيشى، ورغم أن الرواية رشحت لجائزة الغونكور إلا أنها لم تفز بها، بل تم فصل سارتر وسيمون من عملهما بالتدريس.

وترى هازل رولي أن سيمون في الرواية الأولى لها تخلت نهائيا عن الآثار الأخيرة للقيم للبرجوازية، وقد سطع نجم سيمون كروائية بعد روايتها “المندرين” التي قدمت فيها رؤيتها لأوروبا بعد الحرب، وقد فازت عنها بجائزة الغونكور عام 1954، وبقيمة الجائزة اشترت ستوديو في شارع “شولشر” وهو شارع جانبى ضيق قريب من مونبارناس، وكتبت عنه “ليس هناك أحد في الجانب الآخر من الشارع سوى الأموات”، في ذلك الوقت كانت فرنسا هزمت وفقدت مستعمراتها في الهند الصينية، فزاد بطشها في الجزائر، بينما مجلة “الأزمنة الحديثة” تدعم الثورة الجزائرية، وهو الأمر الذي هاجمه اليمين الفرنسي، ولسبع سنوات تالية ارتكبت فيها فرنسا مجازر بشعة ضد الثورة الجزائرية وصف سارتر وسيمون بمعاداة الفرنسيين، وكانا ينكمشان وهما يمران بالشارع أو يتواجدان في مطعم يتواجد به كارهو العرب، فعاشا كمنفيين في وطنهما، لكن تصاعد نجم سارتر على المستوى العالمي ففاز بجائزة نوبل في الآداب لكنه رفضها، مبررا رفضه بأنه “ينبغي على الكاتب أن يرفض ليتحول رفضه إلى عرف”.

في كتابها “قدوم الشيخوخة” 1967، درست دوبوفوار الشيخوخة من الناحية البيولوجية والتاريخية، مستعينة بعشرات الزيارات لدور المسنين، مسجلة مذكراتهم حول شيخوختهم، وقد أجمع النقاد على أن كتاب دو بوفوار غني وواضح وأشبه برواية، أشاروا إلى أنها اصطدمت ثانية بالمحظور الاجتماعي، وكتب بعضهم أن سارتر يلقنها. في هذا الوقت أنهى سارتر كتابه الضخم عن فلوبير فيشعر بسعادة غامرة، بينما دوبوفوار يغزوها شعور غامض بالقلق مبعثه خشيتها من فقد سارتر، الذي أصيب بالعمى والهذيان وارتفاع السكر في الدم بسبب إفراطه في التدخين وشرب الكحول .

رحل سارتر قبل دو بوفوار بست سنوات، فلم يقرأ كتابها “وداعاً لسارتر” لتنتهى علاقة استمرت لنصف قرن جسدتها سيمون بقولها “كنت أُخادع حين اعتدت أن أقول بأننا كنا شخصاً واحدا، فالانسجام بين شخصين لا يمنح أبدا، ينبغي أن يكتسب دائما، رغم العقبات”.

عن بيت الفن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Protected by Spam Master